في صباحٍ مُعتّق بِعبقِ الخريف، ارتدى الولدُ القميصَ الجديدَ الذي اشتراه أبوه بَدَلَاً عن كلِ الكلمات. كان قميصاً أصفرَ كعسلٍ متجمد، يحمل في طيّاته رائحةَ دكّانٍ قديمٍ وَوَعْدَ عامٍ دراسيٍّ يلوح من بعيد. لكن عينَيّ الولدِ لم تَرَ سوى لونٍ باهتٍ يتخلله بقعٌ سوداءُ كجرحٍ على جبين القمر.
"انظروا… كأنه جدارُ بيتِ الجيران " صرخَ مستنكراً، فاجتمعَ الأبُ والأمُ والجيرانُ كفرقةِ إنقاذٍ حول "كارثة" القميص. أشار الجارُ العجوزُ إلى حائطٍ متشقّقٍ بفعل الزمن:
"هذا هو الأصفر الحقيقي يا فتى! أما قميصك فكأنه شُعلةٌ سقطت من شمسِ الظهيرة ".
اضطرّ الولدُ لارتدائه مُغاضباً، لكنّ قدراً غريباً كان ينتظره عند منعطفِ الطريقِ إلى المدرسة. هناك، حيثُ تُعلّمُ الفراشاتُ الأرضَ كيف تطير، وقفتْ فتاةٌ كأنّها قصيدةٌ نُسجت من ضوء. رفرفتْ نحوَه بخطواتٍ رشيقة، ثمّ همستْ في أذنه بلهجةٍ تذوبُ سحراً:
" احذر.. فالأصفر يليقُ بك ".
انتفضَ الولدُ كمنْ لُدغَ بسهمِ كلماتها، بينما اختفت الفتاةُ فجأةً كحلمٍ في عين نائم. لكنّ شيئاً ما تغيّر. عندَ حافةِ القميصِ الباهت، حطّت فراشةٌ زرقاءُ بجناحينَ كقطعتَيِ سماء. نظر إليه فلمعتْ فجأةً البقعُ السوداءُ كنجومِ ليلٍ مبكر، وتحوّلتْ خيوطُ القميصِ إلى حقلِ وَرْدٍ يرقصُ تحتَ المطر.
أصبحَ القميصُ عالماً موازياً. كلّ ليلةٍ يخلعه الولدُ بحرصِ أميرةٍ تخلعُ تاجها، يطوي داخله الفراشاتِ الميتةَ كرسائلَ لم تُقرأ، ويرسمُ بأصبعهِ هالاتٍ ذهبيةً حولَ النقاطِ الباهتة. حتى أنّ الجارَ العجوزَ بدأ يتهامسُ معَ الحائط: "هل ترى؟ لقد سرقتْ فراشاتُه لونَ جدارنا العتيق".
لكنّ الفراشاتَ الحقيقيةَ لم تُطبّقْ سرّها طويلاً. رحلتْ الواحدةُ تلوَ الأخرى، تاركةً أجنحةً مُهشّمةً تحتَ وسادته. حتى النجومُ على القميصِ بدأتْ تختفي، كأنّما غيمٌ أسودُ يبتلعُ سماءَ قميصه. لكنّ الولدَ اكتشفَ سرّاً أخيراً: كلّما أغمضَ عينيه، رأى وجهَ الفتاةِ يلمعُ من بينِ الخيوط، كأنّ الأصفرَ كلَّه صارَ مرآةً لعينَيها.
في إحدى الليالي، بينما كان يُصلحُ جناحَ فراشةٍ كُسرَ، سمعَ همساً يأتي من النافذة: "أتعلمُ لماذا هربت الفراشات؟ لأنّ قميصَك صارَ أجملَ من أحلامها ". التفتَ بسرعةٍ فلم يرَ سوى ذيلَ فستانٍ أبيضَ يختفي خلفَ الزقاق.
منذ ذلك اليوم، لم يخلعِ القميصَ إلا ليغسله بدموعِ فرحٍ ساخرة. يعلمُ أنَّ السحرَ الحقيقيَّ ليس في لونِ القميص، بل في تلكَ اللحظةِ التي التقطتْ فيها عيناهُ سرَّ الأصفرِ من عيني مَنْ رأتْ فيهِ ما لم يره أحد.
وليد النوري
#همسات_الأصفر #قميص_الفراشات_والأسرار #عندما_يتكلم_اللون #الغريبة_التي_غيرت_نظارتي #عالم_موازي_في_قميص #هل_ترى_ما_أرى #السحر_في_التفاصيل_الباهتة