** المقدمة: السؤال الذي يوقظ الروح**
ماذا لو كانت حواسنا الخمس مجرد نوافذ مغبرة نطل منها على الكون؟ أسئلةٌ كهذه لا تُنهي إجاباتُها النقاشَ، بل تشعلُه. فالإحساسُ بوابةُ اللقاء الأولى بين الإنسان والعالم، لكن الإدراك هو البصيرةُ التي تحوّلُ هذا اللقاء العابر إلى حكايةٍ ترويها الذاتُ عن نفسها. إنهما معاً: نبضٌ بيولوجيٌّ صامتٌ، وحوارٌ وجوديٌّ صاخب، ينسجان معاً أعمقَ ألغازِ الكينونة.
** الفصل الأول: الإحساس.. حين تصبح الذبذباتُ قصصاً **
ليست الأعصابُ مجردَ أسلاكٍ ناقلة، بل هي شعراءُ الوجود الخفيون. فما أن تلمس يدُك كوبَ قهوةٍ ساخناً، حتى تتحول الحرارةُ إلى إشاراتٍ كهروكيميائيةٍ تسابقُ الزمنَ نحو الدماغ. لكن الغموضَ الحقيقيَّ يكمن في أن هذه "الترميزات العصبية" تظلُّ بلا معنىً حتى تُلقى في أتونِ الذاكرةِ والخبرة. فالماءُ الباردُ الذي ينعشُك في الصيف، قد يكونُ عذاباً لمن يعيشُ في قطبي الأرض. وهنا يثور السؤال: هل تُخلقُ الأحاسيسُ في المختبراتِ البيولوجية، أم في ورشِ الثقافةِ والذكريات؟
العجيبُ أن العلمَ الحديثَ يكشفُ أن 80% مما نسميه "إحساساً" هو في الحقيقة "تفسيرٌ" يسبقُ الحدثَ نفسه! ففي تجاربِ "الدماغ المُتنبئ"، تُظهرُ الأجهزةُ أن العقلَ يرسمُ سيناريوهاتٍ مسبقةً لكلِّ ما سوف يُحسُّ به، كأنه مخرجٌ سينمائيٌّ يعدُّ النصَّ قبلَ تصويرِ المشهد.
** الفصل الثاني: الإدراك.. حيث تُولد الأساطيرُ الشخصية **
إذا كان الإحساسُ هو الطينُ الخام، فإن الإدراكَ هو عجينُ السيراميك الذي يُشكلُهُ الفنانُ على دوّارَةِ الوعي. إنها عمليةٌ لا تُشبهُ التصويرَ الفوتوغرافي، بل تشبهُ الرسمَ الانطباعي: ضرباتُ فرشاةٍ تعكسُ مزاجَ الرسام أكثرَ من الواقع.
خذْ مثلاً ظاهرةَ "الوجوه في السحاب"، حيث يصرُّ الإنسانُ على رؤيةِ تعابيرَ بشريةٍ في تشكيلاتٍ عشوائية. هذا ليس خطأً في البصر، بل دليلٌ على أن الإدراكَ "مُبرمجٌ" على صياغةِ الرواياتِ حتى من الفراغ. وكما قال الفيلسوفُ نيتشه: "لا وجودَ للحقائقِ، بل تأويلاتٌ فحسب".
ولكن ماذا عن الإدراكِ خارجَ سجنِ الجسد؟ هنا تأتي "حالاتُ الوعي المُتغير" كالتأملِ العميقِ أو تجاربِ الاقترابِ من الموت، حيث يروي الناسُ عن إدراكِ ألوانٍ لم يروها من قبل، أو سماعِ نغماتٍ تتجاوزُ الذبذباتِ المعروفة. هل تُفتحُ هنا نوافذُ إدراكيةٌ جديدةٌ، أم أن العقلَ يخترعُ عوالمَ موازيةً ليعبّرَ عن اللاّمُدرك؟
** الفصل الثالث: الثنائي الخالد.. أيهما يمسكُ بزمام الهوية؟ **
في معرضِ الفنونِ الوجودي، لا نعرفُ من الفنانُ الحقيقي: أهو الإحساسُ الذي يقدمُ الموادَ الخام، أم الإدراكُ الذي ينحتُ التمثال؟ الجوابُ قد يكمنُ في ظاهرةِ "الأطرافِ الوهمية"، حيث يستمرُّ الإنسانُ المُبتورُ في "الشعورِ" بألمٍ في ذراعٍ لم تعد موجودة. هنا يثبتُ أن الإدراكَ قادرٌ على خلقِ واقعٍ بديلٍ أقوى من الحقائقِ المادية.
بل إن بعضَ النظرياتِ الحديثةِ في علمِ الأعصابِ تذهبُ إلى أن "الأنا" ليست سوى وهمٍ إدراكيٍّ معقدٍ، كشخصيةٍ في لعبةِ فيديو تعتقدُ أنها تتحكمُ بزمام الأمور، بينما كلُّ حركاتِها مبرمجةٌ مسبقاً.
** الخاتمة: الإنسان.. ذلك الكائن الذي يرقص على حافة اللغز **
في زمنِ الذكاءِ الاصطناعي، حيث تُحاكى الأحاسيسُ بترميزاتٍ رقميةٍ، يطفو السؤالُ المصيري: هل سيظلُّ الإدراكُ البشريُّ حصناً منيعاً أمامَ آلاتٍ تستطيعُ "التعلمَ" لكنها تعجزُ عن "الوعيِ"؟
#من_الشرارة_إلى_الفسيفساء_لغز_الإنسان_بين_الحس_والمعنى